فصل: ذكر وفاته رحمه الله وقدس روحه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية (نسخة منقحة)



.ذكر وفاته رحمه الله وقدس روحه:

ولما كانت ليلة الأربعاء الثامن والعشرين من صفر وهي الثانية عشرة من مرضه اشتد مرضه وضعفت قوته ووقع من الأمر في أوله وحال بيننا وبينه النساء واستحضرت أنا والقاضي الفاضل تلك الليلة وابن الزكي ولم يكن عادته الحضور في ذلك الوقت وحضر بيننا الملك الأفضل وأمر أن نبيت عنده فلم ير القاضي الفاضل ذلك رأياً فإن الناس كانوا ينتظرون نزولنا من القلعة فخاف إن لم ننزل أن يقع الصوت في البلد وربما نهب الناس بعضهم بعضاً فرأى المصلحة في نزولنا واستحضار الشيخ أبي جعفر إمام الكلاسة وهو رجل صالح ليبيت بالقلعة حتى إذا أحضر رحمه الله بالليل حضر عنده وحال بينه وبين النساء وذكره الشهادة وذكر الله تعالى ففعل ذلك ونزلنا وكل منا يود فداءه بنفسه وبات في تلك الليلة على حال المنتقلين إلى الله تعالى والشيخ أبو جعفر يقرأ عنده القرآن ويذكر الله تعالى وكان ذهنه غائباً من ليلة التاسع لا يكاد يفيق إلا في أحيان. وذكر الشيخ أبو جعفر أنه لما انتهى إلى قوله تعالى: هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة. سمعه وهو يقول رحمة الله عليه: صحيح. وهذه يقظة في وقت الحاجة وعناية من الله تعالى به فلله الحمد على ذلك.
وكانت وفاته بعد صلاة الصبح من يوم الأربعاء السابع والعشرين من صفر سنة تسعة وثمانين وخمسمائة وبادر القاضي الفاضل بعد طلوع الصبح في وقت وفاته ووصلت وقد مات وانتقل إلى رضوان الله ومحل كرمه وجزيل ثوابه، ولقد حكي لي أنه لما بلغ الشيخ أبو جعفر إلى قوله تعالى: لا إله إلا هو عليه توكلت. تبسم وتهلل وجهه وسلمها إلى ربه، وكان يوماً لم يصب الإسلام والمسلمون بمثله منذ فقدوا الخلفاء الراشدين وغشي القلعة والبلد والدنيا من الوحشة ما لا يعلمه إلا الله تعالى. وبالله لقد كنت أسمع من بعض الناس أنهم يتمنون فداءه بنفوسهم وما سمعت هذا الحديث إلا على ضرب من التجوز والترخص إلا في ذلك اليوم فإني علمت من نفسي ومن غيري أنه لو قبل الفداء لفدي بالنفس.
ثم جلس ولده الملك الأفضل للعزاء في الإيوان الشمالي وحفظ باب القلعة إلا عن الخواص من الأمراء والمعممين وكان يوماً عظيماً وقد شغل كل إنسان ما عنده من الحزن والأسف والبكاء والاستغاثة من أن ينظر إلى غيره وحفظ المجلس عن أن ينشد فيه شاعر أو يتكلم فيه فاضل وواعظ. وكان أولاده يخرجون مستغيثين إلى الناس فتكاد النفوس تزهق لهول منظرهم. ودام الحال على هذا إلى ما بعد صلاة الظهر. ثم اشتغل بتغسيله وتكفينه فما أمكننا أن ندخل في تجهيزه ما قيمته حبة واحدة إلا بالقرض حتى في ثمن التبن الذي بلت الطين وغسله الدولعي الفقيه ونهضت إلى الوقوف على غسله فلم تكن لي قوة تحمل ذلك المنظر وأخرج بعد صلاة الظهر في تابوت مسجى بثوب فوط. وكان ذلك وجميع ما احتاج إليه من الثياب في تكفينه قد أحضره القاضي الفاضل من وجه حل عرفه وارتفعت الأصوات عند مشاهدته وعظم من الضجيج والعويل ما شغلهم عن الصلاة فصلى عليه الناس أرسالاً وكان أول من أم بالناس القاضي محيي الدين ابن الزكي ثم أعيد إلى الدار التي في البستان وكان متمرضاً بها ودفن في الصفة الغربية منها. وكان نزوله في حفرته قدس الله روحه ونوّر ضريحه قريباً من صلاة العصر ثم نزل في أثناء النهار ولده الملك الظافر وعزى الناس فيه وسكن قلوب الناس وكان الناس قد شغلهم البكاء عن الإشغال بالنهب والفساد فما وجد قلب إلا حزين ولا عين إلا باكية إلا من شاء الله. ثم رجع الناس إلى بيوتهم أقبح رجوع ولم يعد أحد منهم في تلك الليلة إلا نحن حضرنا وقرأنا وجددنا حالاً من الحزن.
واشتغل في ذلك اليوم الملك الأفضل بكتابة الكتب إلى عمه وأخواته يخبرهم بهذا الحادث. وفي اليوم الثاني جلس للعزاء جلوساً عاماً وأطلق باب القلعة للفقهاء والعلماء وتكلم المتكلمون ولم ينشد شاعر ثم انفض المجلس في ظهر ذلك اليوم واستمر الحال في حضور الناس بكرة وعشية وقراءة القرآن والدعاء له رحمة الله عليه واشتغل الملك الأفضل بتدبير أمر ومراسلة أخوته وعمه.
ثم انقضت تلك السنون وأهلها، فكأنها وكأنهم أحلام تم بعون الله والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

.(منتخبات من كتاب التاريخ لصاحب حماه):

منتخبات من كتاب التاريخ لصاحب حماه تأليف تاج الدين شاهنشاه بن أيوب رحمه الله تتعلق بسيرة السلطان صلاح الدين الأيوبي رحمه الله.
بسم الله الرحمن الرحيم

.ذكر قتل الصالح بن زربك:

وفي سنة ست وخمسين وخمسمائة في رمضان قتل الملك الصالح أبو الغارات طلائع بن رزبك الأرمني وزير العاضد العلو جهزت عليه عمة العضد من قتله وهو داخل في القطر بالسكاكين، ولم يمت في تلك الساعة بل حمل إلى بيته، وأرسل يعتب على العاضد، فأرسل العاضد إليه يحلف له أنه لم يرض ولا علم بذلك، وأمسك العاضد عمته وأرسلها إلى طلائع فقتلها، وسأل العاضد أن يولي ابنه رزبك الوزارة ولقب العادل، ومات طلائع واستقر ابنه رزبك في الوزارة.

.ذكر ولاية شاور ثم الضرغام:

وفي سنة ثمان وخمسين وخمسمائة في صفر وزر شاور للعاضد لدين الله العلوي، وكان شاور يخدم الصالح طلائع بن رزبك فولاه الصعيد، وكانت ولاية الصعيد أكبر المناصب بعد الوزارة. ولما جرح الصالح أوصى ابنه العادل أن لا يغير على شاور شيئاً لعلمه بقوة شاور، ولما تولّى العادل بن الصالح الوزارة كتب إلى شاور بالعزل، فجمع شاور جموعه وسار نحو العادل إلى القاهرة، فهرب العادل وطرد وراءه شاور وأمسكه وقتله، وهو العادل رزبك ابن الصالح طلائع بن رزبك، وانقرضت بقتله دولة بني رزبك، واستقر شاور في الوزارة وتقلب بأمير الجيوش وأخذ أموال بني رزبك وودائعهم، ثم إن الضرغام جمع جمعاً ونازع شاور في الوزارة في شهر رمضان، فقوي على شاور فانهزم شاور إلى الشام مستنجداً بنور الدين. ولما تمكن الضرغام من الوزارة قتل كثيراً من الأمراء المصريين لتخلو له البلاد، فضعفت الدولة بهذا السبب حتى خرجت البلاد من أيديهم.

.ثم دخلت سنة تسع وخمسين وخمسمائة:

وفي هذه السنة سيّر نور الدين محمود بن زنكي عسكراً مقدمهم أسد الدين شيركوه بن شاذي إلى الديار المصرية ومعهم شاور وكان قد صار من مصر هارباً من الضرغام الوزير، فلحق شاور بنور الدين واستنجده وبذل له ثلث أموال مصر بعد رزق جندها إن أعاده إلى الوزارة، فأرسل نور الدين شيركوه إلى مصر فوصل إليها وهزم عسكر ضرغام عند قبر السيدة نفيسة، وأعاد شاور إلى وزارة العاضد العلوي، ثم غدر شاور بنور الدين ولم يف له بشيء مما شرط، فسار شيركوه واستولى على بلبيس والشرقية، فأرسل شاور يستنجد الإفرنج على إخراج أسد الدين شيركوه من البلاد، فسار الإفرنج واجتمع معهم شاور بعسكر مصر وحصروا شيركوه ببلبيس، ودام الحصار ثلاثة أشهر، وبلغ الإفرنج حركة نور الدين وأخذه حارم، فراسلوا شيركوه في الصلح وفتحوا له، فخرج من بلبيس بمن معه من العسكر وسار بهم ووصلوا الشام سالمين.
وفي هذه السنة في رمضان فتح نور الدين محمود حارم، وأخذها من الإفرنج بعد مصاف جرى بين نور الدين والإفرنج انتصر فيه نور الدين وقتل وأسر عالماً كثيراً، وكان من جملة الأسرى البرنس صاحب أنطاكية والقومص صاحب طرابلس وغنم منهم المسلمون شيئاً كثيراً. وفي هذه السنة أيضاً في ذي الحجة سار نور الدين إلى بانياس وفتحها وكانت بيد الإفرنج من سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة إلى هذه السنة. ثم دخلت سنة إحدى وستين وخمسمائة وفيها فتح نور الدين محمود حصن المنيظرة من الشام وكان بيد الإفرنج.
ثم دخلت سنة اثنين وستين وخمسمائة وفيها عاد أسد الدين شيركوه إلى الديار المصرية وجهزه نور الدين بعسكر جيد عدّتهم ألف فارس، فوصل إلى ديار مصر واستولى على الجيزة، وأرسل شاور إلى الإفرنج استنجدهم وجمعهم وساروا في أثر شيركوه إلى جهة الصعيد والتقوا على بلد يقال له الأبوان، فانهزم الإفرنج والمصريون، واستولى شيركوه على بلاد الجيزة واستغلها، ثم سار إلى الإسكندرية وملكها وجعل فيها ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب، وعاد شيركوه إلى جهة الصعيد فاجتمع عسكر مصر والإفرنج وحصروا صلاح الدين بالإسكندرية مدة ثلاثة أشهر، فسار شيركوه إليهم واتفقوا على الصلح على مال يحملونه إلى شيركوه ويسلم إليهم الإسكندرية ويعود إلى الشام، فتسلم المصريون الإسكندرية في منتصف شوال من هذه السنة، وسار شيركوه إلى الشام فوصل إلى دمشق في ثامن عشر ذي القعدة واستقر الصلح بين الإفرنج والمصريين على أن يكون للإفرنج بالقاهرة شحنة وتكون أبوابها بيد فرسانهم ويكون لهم من دخل مصر كل سنة مائة ألف دينار.
وفي هذه السنة فتح نور الدين صاميثا والعريبة وفيها عصى غازي بن حسان صاحب منبج على نور الدين بمنبج فسير إليه عسكر أخذوا منه منبج، ثم أقطع نور الدين منبج قطب الدين ينال بن حسان أخا غازي المذكور، فبقي فيها إلى أن أخذها منه صلاح الدين يوسف بن أيوب سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة.
ثم دخلت سنة أربع وستين وخمسمائة وفيها ملك نور الدين قلعة جعبر وأخذها من صاحبها شهاب الدين مالك بن علي بن مالك بن سالم بن مالك بن بدران بن المقلد بن المسيب العقيلي، وكانت بأيديهم من أيام السلطان ملكشاه ولم يقدر نور الدين على أخذها إلا بعد أن أسر صاحبها وأحضروه إلى نور الدين واجتهد به على تسليمها فلم يفعل فأرسل عسكراً مقدمهم فخر الدين مسعود بن أبي علي الزعفراني وأردفه بعسكر آخر مع مجد الدين أبي بكر المعروف بابن الداية وكان رضيع نور الدين، وحصروا قلعة جعبر فلم يظفروا منها بشيء، وما زالوا على صاحبها مالك حتى سلمها وأخذ عنها عوضاً مدينة سروج بأعمالها والملوح من بلد حلب وعشرين ألف دينار معجلة وباب بزاغة.

.ذكر ملك أسد الدين شيركوه مصر وقتل شاور ثم ملك صلاح الدين وهو ابتداء الدولة الأيوبية:

وفي هذه السنة أعني سنة أربع وستين وخمسمائة في ربيع الأول سار أسد الدين شيركوه بن شاذي إلى ديار مصر ومعه العساكر النورية. وسبب ذلك تمكن الإفرنج من البلاد المصرية وتحكمهم على المسلمين بها حتى ملكوا بلبيس قهراً في مستهل صفر من هذه السنة ونهبوها وقتلوا أهلها وأسروهم ثم ساروا من بلبيس ونزلوا على القاهرة عاشر صفر وحصروها، فأحرق شاور مدينة مصر خوفاً من أن يملكها الإفرنج، وأمر أهلها بالانتقال إلى القاهرة، فبقيت النار تحرقها أربعة وخمسين يوماً، فأرسل العضد إلى نور الدين يستغيث به وصانع شاور الإفرنج على ألف ألف دينار يحملها إليهم، فحمل إليهم مائة ألف دينار وسألهم أن يرحلوا عن القاهرة ليقدر على جمع المال وتحصيله، فرحلوا وجهز نور الدين العسكر مع شيركوه وأنفق فيهم المال وأعطى شيركوه مائتي ألف دينار سوى الثياب والدواب والأسلحة، وأرسل معه عدة أمراء منهم ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب على كره منه. أحب نور الدين مسير صلاح الدين وفيه ذهاب الملك من بينه. وكره صلاح الدين المسير وفيه سعادته وملكه. وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم. ولما قارب شيركوه مصر رحل الإفرنج من ديار مصر على أعقابهم إلى بلادهم، فكان هذا لمصر فتحاً جديداً، ووصل أسد الدين شيركوه إلى القاهرة في رابع ربيع الآخر واجتمع بالعاضد وخلع عليه وعاد إلى خيامه بالخلعة العاضدية، وأجرى عليه وعلى عسكره النفقة الوافرة، وشرع شاور يماطل شيركوه فيما كان بذله لنور الدين من تقرير المال وإيراد ثلث البلاد، ومع ذلك فكان شاور يركب كل يوم إلى أسد الدين شيركوه ويعده ويمنّيه وما يعدهم الشيطان إلا غروراً. ثم إن شاور عزم على أن يعمل دعوة لشيركوه وأمرائه ويقبض عليهم، فمنعه ابنه الكامل بن شاور من ذلك. ولما رأى عسكر نور الدين من شاور ذلك عزموا على الفتك بشاور، واتفق على ذلك صلاح الدين يوسف وعز الدين جرديك وغيرهما وعرّفوا شيركوه بذلك، فنهاهم عنه، واتفق أن شاور قصد شيركوه على عادته فلم يجده في المخيم، وكان قد مضى لزيارة قبر الشافعي رضي الله عنه، فلقي صلاح الدين وجرديك شاور وأعلماه برواح شيركوه إلى زيارة الشافعي، وساروا جميعاً إلى شيركوه، فوثب صلاح الدين وجرديك على شاور وألقياه إلى الأرض عن فرسه وأمسكاه في سابع ربيع الآخر من هذه السنة، فهرب أصحابه عنه، وأرسلا أعلما شيركوه بما فعلا، فحضر ولم يمكنه إلا إتمام ذلك. وسمع العاضد الخبر فأرسل إلى شيركوه يطلب منه إنفاذ رأس شاور، فقتله وأرسل رأسه إلى العاضد، ودخل بعد ذلك القصر عند العاضد، فخلع عليه العاضد خلعة الوزارة ولقبه الملك المنصور أمير الجيوش، وسار بالخلع إلى دار الوزارة، وهي التي كان فيها شاور، واستقر في الأمر، وكتب له منشوراً أوّله بعد البسملة: من عبد الله ووليه أبي محمد الإمام العاضد لدين الله أمير المؤمنين إلى السيد الأجل الملك المنصور سلطان الجيوش ولي الأئمة مجير الأمة أسد الدين أبي الحارث شيركوه العاضد عضد الله به الدين وأمتع بطول بقائه أمير المؤمنين وأدام قدرته وأعلى كلمته. سلام عليك، إنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ونسأله أن يصلي على محمد وآله الطاهرين والأئمة المهديين ويسلم تسليما. ثم ذكر تفويض أمور الخلافة إليه ووصايا أضربنا عنها للاختصار. وكتب العاضد بخطه على ظهر المنشور: هذا عهد لم يعهد لوزير بمثله فتقلد أمانة رآك أمير المؤمنين أهلا لحملها، فخذ كتاب أمير المؤمنين بقوة واسحب ذيل الافتخار بأن اعتزت خدمتك إلى النبوة. ومدحت الشعراء أسد الدين ووصل إليه من الشام مديح العماد الكاتب قصيدة أولها:
بالجد أدركت ما أدرجت لا اللعب ** كم راحة جنيت من دوحة التعب

يا شيركوه بن شاذي الملك دعوة من ** نادى فعرف خير ابن بخير أب

جرى الملوك وما حازوا بركضهم ** من المدى في العلا ما حزت بالخبب

ملكت من ملك مصر رتبة قصرت ** عنها الملوك فطالت سائر الرتب

قد أمكنت أسد الدين العزيمة من ** فتح البلاد فبادر نحوها وثب

وفي شيركوه وقتله شاور يقول عرقلة الدمشقي:
لقد فاز بالملك العظيم خليفة ** له شيركوه العاضدي وزير

هو الأسد الضاري الذي جل خطبه ** وشاور كلب للرجال عقور

بغى وطغى حتى لقد طال صحبه ** على مثلها كان اللعين يدور

فلا رحم الرحمن تربة قبره ** ولا زال فيه منكر ونكير

فأما الكامل بن شاور لما قتل أبوه فقد دخل القصر فكان آخر العهد به. ولما لم يبق لأسد الدين شيركوه منازع أتاه أجله حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة. وتوفي يوم السبت الثاني والعشرين من جمادى الآخرة سنة أربع وستين وخمسمائة، فكانت ولايته شهرين وخمسة أيام. وكان شيركوه وأيوب ابنا شاذي من بلد دوين، قال ابن الأثير: وأصلهما من الأكراد الروادية فقصدا العراق وخدما بهروز شحنة السلجوقية ببغداد، وكان أيوب أكبر من شيركوه فجعله بهروز مستحفظاً قلعة تكريت، ولما انكسر عماد الدين زنكي من عسكر الخليفة ومر على تكريت خدمه أيوب وشيركوه، ثم إن شيركوه قتل إنساناً بتكريت فأخرجهما بهروز من تكريت فلحقا بخدمة عماد الدين زنكي، فأحسن إليهما وأعطاهما إقطاعات جميلة. ولما كان ملك قلعة بعلبك جعل أيوب مستحفظاً لها، ولما حاصر عسكر دمشق بعلبك بعد موت زنكي سلمها أيوب لهم على إقطاع كثيرة شرطوها له، وبقي أيوب من أكبر أمراء عسكر دمشق، وبقي شيركوه مع نور الدين محمود بعد موت أبيه زنكي وأقطعه نور الدين حمص والرحبة لما رأى من شجاعته وزاده عليها وجعله مقدم عسكره، فلما أراد نور الدين ملك دمشق أمر شيركوه فكاتب أخاه أيوب فساعد أيوب نور الدين على ملك دمشق، وبقي مع نور الدين إلى أن أرسل شيركوه إلى مصر مرة بعد أخرى حتى ملكها وتوفي في هذه السنة على ما ذكرناه.
ولما توفي شيركوه كان معه صلاح الدين يوسف ابن أخيه أيوب بن شاذي وكان قد سار معه على كره وكان قد قال شيركوه بحضرته يا يوسف تجهز للمسير فقلت والله لو أعطيت ملك مصر ما سرت إليها فلقد قاسيت بالإسكندرية ما لا أنساه أبداً، فقال نور الدين لابد من مسيره معي فأمرني نور الدين وأنا استقيل، فقال نور الدين لابد من مسيرك مع عمك، فشكوت الضائقة، فأعطاني ما تجهزت به فكأنما أساق إلى الموت، ولما مات شيركوه طلب جماعة من الأمراء النورية التقدم على العسكر وولاية الوزارة العاضدية منهم عين الدولة الياروقي وقطب الدين ينال المنبجي وسيف الدين علي بن أحمد المشطوب الهكاري وشهاب الدين محمود الحاوي وهو خال صلاح الدين فأرسل العاضد أحضر صلاح الدين وولاه الوزارة ولقبه بالملك الناصر فلم تطعه الأمراء المذكورون، وكان مع صلاح الدين الفقيه عيسى الهكاوي فسعى إلى المشطوب حتى أماله إلى صلاح الدين، ثم قصد الحارمي وقال هذا ابن أختك وعزه وملكه لك فمال إليه أيضاً ثم فعل بالباقين كذلك فكلهم أطاع غير عين الدولة الياروقي فإنه قال أنا لا أخدم يوسف وعاد إلى نور الدين بالشام، وثبت قدم صلاح الدين على أنه نائب نور الدين، وكان نور الدين يكاتب صلاح الدين بالأمير الإسفهسلا ويكتب علامته على رأس الكتاب تعظيماً عن أن يكتب اسمه وكان لا يفرده بكتاب بل إلى الأمير صلاح الدين وكافة الأمراء بالديار المصرية يفعلون كذا وكذا، ثم أرسل صلاح الدين يطلب من نور الدين أباه أيوب وأهله، فأرسلهم إليه نور الدين، فأعطاهم صلاح الدين الإقطاعات بمصر وتمكن من البلاد وضعف أمر العاضد. ولما فوّض الأمر إلى صلاح الدين تاب عن شرب الخمر وأعرض عن أسباب اللهو وتقمص لباس الجد ودام على ذلك إلى أن توفاه الله تعالى. قال ابن الأثير مؤلف كتاب الكامل: رأيت كثيراً ممن ابتدأ الملك ينتقل إلى غير عقبه فإن معاوية تغلب وملك فانتقل الملك إلى بني مروان، ثم بعده إلى ملك السفاح من بني العباس فانتقل الملك إلى عقب أخيه المنصور ثم السامانية، أول من ابتدى بالملك نصر بن أحمد فانتقل الملك إلى أخيه إسماعيل وعقبه ثم عماد الدولة بن بويه ملك فانتقل الملك إلى عقب أخيه ثم شيركوه ملك فانتقل الملك إلى أخيه.
ولما قام صلاح الدين بالملك لم يبق الملك في عقبه بل انتقل إلى أخيه العادل ولم يبق لأولاد صلاح الدين غير حلب، وكان سبب ذلك كثرة قتل من يتولى ذلك أوّلاً، وأخذ الملوك وعيون أهله وقلوبهم متعلقة به فيحرم عقبه ذلك.
ولما استقر قدم صلاح الدين في الوزارة قتل مؤتمن الخلافة وكان مقدم السودان فاجتمعت السودان فهم حفاظ القصر في عدد كثير وكان بينهم وبين صلاح الدين وعسكره وقعة عظيمة بين القصرين انهزم فيها السودان وقتل منهم خلق كثير، وتبعهم صلاح الدين فأخلاهم قتلاً وتهجيجاً وتهيجاً وحكم صلاح الدين على القصر وأقام فيه بهاء الدين قراقوش الأسدي وكان خصياً أبيض، وبقي لا يجري في القصر صغيرة ولا كبيرة إلا بأمر صلاح الدين.
ثم دخلت سنة خمس وستين وخمسمائة فيها سارت الإفرنج إلى دمياط وحصروها، وشحنها صلاح الدين بالرجال والسلاح والذخائر، وأخرج على ذلك أموالاً عظيمة، فحصروها خمسين يوماً، وخرج نور الدين فأغار على بلادهم بالشام فرحلوا عائدين على أعقابهم ولم يظفروا بشيء منها. قال صلاح الدين: ما رأيت أكرم من العاضد أرسل إلي مدة إقامة الإفرنج على دمياط ألف ألف دينار مصرية سوى الثياب وغيرها.
وفيها سار نور الدين وحاصر الكرك مرة ثم رحل عنه. وفيها كانت زلزلة عظيمة خربت الشام فقام نور الدين في عمارة الأسوار وحفظ البلاد أتم قيام وكذلك خرجت بلاد الإفرنج فخافوا من نور الدين واشتغل كل منهم عن قصد الآخر بعمارة ما خرب من بلاده.
وفيها في ذي الحجة مات قطب الدين مودود بن زنكي بن آقسنقر صاحب الموصل وكان مرضه حمّى حادّة. ولما مات صرف أرباب الدولة الملك عن ابنه الأكبر عماد الدين زنكي بن مودود إلى أخيه الذي هو أصغر منه وهو سيف الدين غازي بن مودود، فسار عماد الدين زنكي إلى عمه نور الدين مستنصراً به. وتوفي قطب الدين وعمره أربعون سنة تقريباً وكانت مدة ملكه إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر ونصفاً وكان من أحسن الملوك سيرة.
وفي سنة ست وستين سار نور الدين محمود بن زنكي إلى الموصل وهي بيد أخيه غازي بن مودود بن عماد الدين زنكي بن آقسنقر فاستولى عليها نور الدين وملكها. ولما ملك نور الدين الموصل قرر أمرها وأطلق المكؤس منها، ثم وهبها لابن أخيه سيف الدين غازي وأعطى سنجار لعماد الدين وهو أكبر من أخيه، فقال كمال الدين الشهورزوري: هذا طريق إلى أذى يحصل للبيت الأتابكي، لأن عماد الدين كبير لا يرى طاعة أخيه سيف الدين وسيف الدين هو الملك لا يرى الإغضاء لعماد الدين فيحصل الخلف وتطمع الأعداء.
وفي هذه السنة سار صلاح الدين عن مصر فغزا بلاد الإفرنج قرب عسقلان والرملة وعاد إلى مصر ثم خرج إلى إيلة وحصرها وهي للإفرنج على ساحل البحر الشرقي ونقل إليها المراكب وحصرها براً وبحراً وفتحها في العشر الأول من ربيع الآخر واستباح أهلها وما فيها وعاد إلى مصر، ولما استقر صلاح الدين بمصر كان دار الشحنة تسمى دار المعونة يحبس فيها فهدمها صلاح الدين وبناها مدرسة للشافعية. وكذلك بنى دار العزل مدرسة للشافعية، وعزل قضاة المصريين وكانوا شيعاً ورتب قضاة شافعية وذلك في العشرين من جمادى الآخرة. وكذلك اشترى تقي الدين عمر ابن أخي صلاح الدين منازل العز وبناها مدرسة للشافعية.